«متاهة النكران» كتاب جديد يوثق سيرة أبطال ثورة 1919 المنسيين
صدر حديثا عن دار ريشة للنشر والتوزيع كتاب «متاهة النكران.. من سيرة أبطال ثورة 1919» للكاتب الصحفي والباحث في التاريخ ياسر الشيمي، متناولا جانبا إنسانيا وتاريخيا مهما من مسيرة الثورة، عبر توثيق حكايات أبطالها الذين غابت أسماؤهم عن الذاكرة العامة، رغم ما قدموه من تضحيات في سبيل حرية الوطن.
يقدم الكتاب قراءة معمقة لثورة 1919 بوصفها محطة مفصلية في التاريخ المصري والإنساني، إذ واجه المصريون الإمبراطورية البريطانية في أوج نفوذها بشجاعة غير مسبوقة.
انطلقت شرارة الثورة مع مطالبة قادة الوفد بالاستقلال، بعد يومين فقط من إعلان بريطانيا انتصارها في الحرب العالمية الأولى، في تحد سياسي وشعبي لهيمنة الاحتلال.
ويكشف الكتاب الجذور الحقيقية للثورة، بدءا من سياسات القمع والظلم التي فرضها الاحتلال، مرورا بالأحكام العرفية ومصادرة أراضي الفلاحين والتجنيد القسري، وصولا إلى حالة التلاحم الوطني التي جمعت المسلمين والمسيحيين، والرجال والنساء، تحت شعار «يحيا الهلال مع الصليب».
كما يتناول الأثر الملهم للثورة في تحفيز حركات التحرر لدى شعوب أخرى، ويؤكد أن خلف هذا الحدث التاريخي الكبير يقف أبطال مجهولون غابت أسماؤهم في زحام الذاكرة، رغم ما قدموه من تضحيات جسيمة في سبيل حرية الوطن.
ويهدف الكتاب إلى إنصاف عشرين بطلا دفعوا ثمن مواقفهم دمًا وحياة، فتنوعت مصائرهم بين القتل والنفي والتغييب، بينما محيت أسماؤهم من السجل العام.
ومن خلال إعادة تسليط الضوء على قصصهم، يدعو المؤلف إلى استعادة مكانتهم المستحقة في التاريخ الوطني، وتصحيح ما لحق بهم من ظلم التهميش والنسيان في السرد التعليمي والرسمي.
ثورة 1919.. حين تحدّى المصريون إمبراطورية العالم في لحظة غرورها
تكشف قراءة التاريخ بعمق أن الثورات الكبرى لا تقاس بعدد المتظاهرين ولا بضجيج الهتافات وحده، بل بجرأة التوقيت وحجم المواجهة.
ومن بين تلك اللحظات الفاصلة، تبرز ثورة 1919 بوصفها محطة استثنائية في التاريخ المصري والإنساني، ليس فقط باعتبارها انتفاضة شعبية ضد الاستعمار، وإنما لأنها واجهت الإمبراطورية البريطانية في ذروة قوتها وغرورها.
في 11 نوفمبر 1918 أعلنت بريطانيا انتصارها في الحرب العالمية الأولى، وقدّمت نفسها سيدة للعالم بلا منازع. وبعد يومين فقط، وفي مشهد غير مسبوق، توجه ثلاثة من رموز الحركة الوطنية المصرية، سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي، إلى مقر المندوب السامي البريطاني مطالبين باستقلال مصر، خلال 48 ساعة من نشوة النصر، وضع الاحتلال أمام مطلب الحرية.
بلغ وقع هذه الخطوة حدا دفع القمص سرجيوس، أحد أبرز خطباء الثورة، إلى وصف سعد زغلول في خطاب جماهيري عقب عودته من المنفى بـ«المجنون»، توصيف حمل الإعجاب بقدر ما عبّر عن الدهشة من جرأة مواجهة قوة عالمية لا تُقهر آنذاك.
من هنا، لا يبدأ مسار الثورة المصرية عند الغضب الشعبي وحده، بل من قرار جريء واجه فيه المصريون المستحيل، ووجّهوا رسالة واضحة إلى الإمبراطورية المنتصرة: الرحيل.
لحظة تستحق أن تروى مرارا، لا بوصفها حدثا تاريخيا فقط، بل درسا للأجيال في كيفية شق طريق الحرية.
اندلعت ثورة 1919 في مناخ مثقل بالقهر والاستبداد، حيث فرض الاحتلال البريطاني الأحكام العرفية، ومارس سياسات قمعية واسعة.
وجاءت الثورة بوصفها أول انتفاضة شعبية شاملة في أفريقيا والشرق الأوسط، لتلهم لاحقًا حركات التحرر في الهند والعراق والمغرب وليبيا.
لم تكن الثورة انفجارا مفاجئا، بل نتاج تراكم طويل من المعاناة. خلال الحرب العالمية الأولى، صادرت السلطات البريطانية ممتلكات الفلاحين، وفرضت عليهم زراعة محاصيل تخدم مصالحها، كما جندت مئات الآلاف قسرًا ضمن «فرق العمل المصرية» للعمل خلف خطوط القتال في جبهات متعددة.
تجلت قوة الثورة في قدرتها على توحيد المصريين بمختلف انتماءاتهم، حيث التحم المسلمون والمسيحيون تحت شعار «يحيا الهلال مع الصليب»، في صورة جسّدت وحدة وطنية صلبة.
وبرز دور المرأة المصرية بوضوح، إذ شاركت في مظاهرات حاشدة، ورفعت الشعار ذاته، وقدّمت شهيدات في سبيل الوطن.
وامتد الحراك ليشمل موظفين ومحامين وطلابا، ما أدى إلى شلل واسع في مؤسسات الدولة، وفرض على الاحتلال إعادة النظر في سياساته القمعية.
بهذا الزخم، خط المصريون في ثورة 1919 ملحمة وطنية خالدة، وقدّموا نموذجا إنسانيا في النضال والتضحية، مؤكدين أن إرادة الشعوب قادرة على كسر جبروت الاحتلال، مهما بلغ نفوذه وقوته.