الدكتور محمود السعيد يكتب: "رسالة لمنتقدي التصنيفات الجامعية"
خلال هذا الأسبوع، وصلتني رسالة من أحد الأساتذة يلفت فيها نظري إلى كتاب حديث الصدور بعنوان "الأكاديميا المظلمة: كيف تموت الجامعات" للبروفيسور الاسترالي بيتر فليمينغ. وقد تضمنت الرسالة وصفًا للكتاب بأنه صرخة فكرية عالية في وجه الجامعات في العالم والتي فقدت جوهر رسالتها، واستسلمت لمنطق السوق بدلًا من منطق المعرفة.
ويرى مؤلف الكتاب فليمينغ أن الجامعات تحوّلت تدريجيًا إلى مؤسسات مُنهكة متخشّبة تُدار بعقلية الشركات، حيث تتصدر شعارات مثل «التميز» و«التأثير» و«العلامة التجارية» واجهة الخطاب، بينما يتم في الخلفية تفريغ العملية التعليمية من محتواها الحقيقي. ووفقًا له، فقد أصبحت الجامعة اليوم مجرد “مؤسسة زومبي” بمعنى أنها جسد يتحرك ببرود بينما انتزعت روحه تحت سيطرة منطق السوق والربحية.
وقد لخّص مؤلف الكتاب أزمة الجامعات المعاصرة في عدة ملامح أساسية أهمها:
1. أن الجامعة تحوّلت إلى “Zombie Institution” وأصبحت شكل بلا مضمون، ومبانٍ تتحدث عن العلم بينما تدار بمنطق إدارة الشركات.
2. تحول القيمة إلى أرقام ومخرجات مقاسة، حيث أصبح الإنتاج البحثي والتمويل والاستشهادات هي المحدد الوحيد لقيمة الباحث.
3. تغليب قاعدة “انشر أو اندثر” في الجامعات، والتي أصبحت آلية قمع تبقي الباحث في قلق دائم، خصوصًا في بداياته.
4. قياس «الأثر» غالبًا ليس سوى تمثيلية شكلية أقرب إلى تعبئة استمارات من إحداث تغيير حقيقي.
5. أصبح الطالب يُعامل كـ«زبون» والجامعة كمُنتَج ينافس في جداول الترتيب.
ومن واقع خبرتي في المجال الأكاديمي، أجد الكثير من الزملاء يتفقون مع فليمينغ في جانب كبير مما ذهب إليه في كتابه. فالنقاش حول التصنيفات الدولية يكاد يكون حاضرًا في كل محفل أكاديمي، والانتقادات تتكرر دائمًا: هذه التصنيفات لا تعكس بالضرورة القيمة الحقيقية للجامعات، بل تدفعها إلى السعي وراء مؤشرات رقمية مثل عدد الأبحاث المنشورة، ونسب الطلاب إلى أعضاء هيئة التدريس، وغيرها من القياسات الكمية، بينما تتراجع الرسالة الأعمق للجامعة وهي نشر المعرفة وتأهيل الإنسان ليكون عنصرًا فاعلًا في مجتمعه، قادرًا على الإسهام في التنمية ومعالجة التحديات.
وأنا بدوري أتفق مع كثير من هذه الانتقادات، لكني أرى أن علينا قبل إصدار الأحكام أن نطرح بعض الأسئلة الجوهرية حول النظام العالمي الحالي لتقييم الجامعات والمجلات والباحثين، وهو نظام يعتمد أساسًا على مؤشرات كمية وببلومترية.
السؤال الأول هو هل يمكن أن نستغني تمامًا عن تقييم الجامعات وترتيبها وقياس أثر الباحثين والمجلات؟
إن كنت عزيزي القارئ ترى أننا لسنا في حاجة لأي نظام تقييم، فربما لن تجد ما سأقوله لاحقًا مقنعًا. أما إذا كنت مثلي مؤمنًا بأهمية وجود نظام موضوعي للتقييم، مع تحفظك على الطريقة الحالية المتبعة، فلدينا إذن أرضية مشتركة للحديث.
والحقيقة أن هناك ضرورة كبيرة لوجود آليات تقيس أثر الجامعات والباحثين والمجلات، وذلك لاعتبارات عديدة تتعلق بالجودة والشفافية وتطوير السياسات ومكافاة المجتهد ومساءلة المقصر.
أما السؤال الثاني عزيزي القارئ فهو إذا كنت ترى أن التقييم مهم، ولكنك غير راضٍ عن تركّيزه على قياسات كمية فقط، فمن وجهة نظرك كيف نقيم الجامعات موضوعيًا في حين أن مخرجاتها الأساسية مثل جودة التعليم، وبناء التفكير النقدي، وتنمية الشخصية هي بطبيعتها مخرجات كيفية لا يمكن قياسها بسهولة أو لا يمكن قياسها مطلقًا؟
إذا فكرت في الأمر الواقع ستجد أنه ليس هناك بديل كامل للقياسات الكمية التي تعتمد عليها المؤسسات الحديثة في تصنيف الجامعات، إذ إنها الأكثر موضوعية وقابلية للتطبيق. نعم يمكن تحسينها وتطويرها، لكن من الصعب استبدالها بمقاييس كيفية خالصة.
ولكي أقرب لك الفكرة، تخيل أن طالبًا أجاب سؤالًا مقاليًا؛ إذا عرضنا إجابة الطالب على ثلاثة أساتذة، قد يحصل من أحدهم على «امتياز»، ومن الآخر على «جيد»، ومن الثالث على «راسب». هذا التفاوت في عملية التقييم طبيعي جدًا لأنه تقييم كيفي يعتمد على وجهات نظر المقيمين. ولكن لو كان السؤال اختيارًا من متعدد، وكانت الإجابة الصحيحة واضحة، سيتفق المقيمون الثلاثة على التقدير نفسه. وهذا يبين حقيقة هامة مفادها أن ما يمكن قياسه بدقة يُقاس بدقة، وما يصعب قياسه سوف يكون محل اختلاف.
عزيزي القارئ، سواء اتفقنا أم اختلفنا على أهمية التصنيفات ودقتها في قياس الآداء، فنحن نعيش اليوم في عصر التقييم والتصنيف والترتيب. وهذه الأنظمة رغم عيوبها ليست غاية في ذاتها، بل أدوات لتحسين الجودة. المطلوب هو الانخراط في تطويرها ونقدها البناء، وليس الاكتفاء برفضها كليًا، لأن هذا الرفض لن يغير من الواقع في شيء.