الدكتور محمود السعيد يكتب: «تعليق على انسحاب جامعة السوربون من تصنيف التايمز»
أثار الإعلان الأخير لجامعة السوربون الفرنسية عن انسحابها من تصنيف التايمز البريطاني للجامعات (THE) جدلًا كبيرًا في الأوساط الأكاديمية وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، والبعض يعتقد أن الجامعة انسحبت من كافة التصنيفات الدولية للجامعات بما فيها تصنيفات كيو أس وشانغهاي، ولكن في الواقع ومن قراءتي للبيان الإعلامي للجامعة يتضح أن هذا الانسحاب يقتصر على تصنيف تايمز البريطاني فقط، وليس من جميع التصنيفات الدولية كما أُشيع على بعض المنصات الإلكترونية.
جامعة السوربون اتخذت هذا القرار كنتيجة لاعتراضها على منهجية التصنيف ومعاييره في التقييم غير الشفافة من وجهة نظرها.
جامعة السوربون لم تكن الجامعة الأولى التي تتخذ هذا الموقف حيال تصنيف التايمز؛ فقد سبقتها جامعة زيورخ السويسرية العام الماضي بالانسحاب من التصنيف ذاته، وتبعتها في هذا الأمرجامعات أخرى اتخذت قرارات مماثلة للأسباب نفسها المذكورة في بيان جامعة السوربون، والتي كان أبرزها عدم اقتناع هذه الجامعات بجدوى التصنيف وافتقاره إلى الموضوعية الكافية، وذلك بسبب اعتماده المفرط على المؤشرات الكمية دون النظر العميق إلى جوانب الجودة الكيفية للجامعات التي تعبّر بصدق عن مدى جودة التعليم والبحث العلمي فيها.
في الحقيقة تصنيفات الجامعات كثيرة ومتنوعة وتصدر عن عدد كبير من المؤسسات الدولية المهتمة بقياس جودة الجامعات فيما يخص ما تقدمه من تعليم وتشارك به من بحث علمي، ولكل منها معايير ومنهجيه مختلفة في قياس الأداء الجامعي، فمنها من يعطي الوزن الأكبر في التقييم للبحث العلمي، مثل تصنيف شانغهاي الصيني وليدن الهولندي، ومنها من يعطي الوزن الأكبر للتعليم ومخرجاته.
وبالطبع هناك دائما انتقادات حادة توجه إلى بعض التصنيفات، وخصوصا تصنيف التايمز البريطاني، بسبب ضعف مصداقية مؤشرات القياس فيها وعدم شفافية القياس، أو قصورها في مسألة قياس جودة العملية التعليمية والبحثية في الجامعات بدقة.
ولكن هذا لا يمنع أن هناك تصنيفات أخرى تحظى بتقدير واحترام كبير من غالبية الجامعات مثل تصنيف شنغهاي الصيني، وتصنيف ليدن الهولندي، وتصنيف كيو إس البريطاني، إذ تعتمد هذه التصنيفات على منهجيات أكثر توازنًا وتنوعًا في مؤشرات الأداء.
وتعليقي على هذا الانسحاب للجامعات المذكورة من تصنيف تايمز أنه قد يعبر عن غضبها من الترتيب المتأخر الذي تحصل عليه في هذه التصنيفات بسبب منهجيتها التي تعتمد على الكم أكثر من الكيف.
الحقيقة أن مسألة قياس جودة الجامعات من حيث الكيف لا الكم هي قضية معقدة للغاية وصعبة التحقيق، بل يمكن القول إنها شبه مستحيلة، السبب في ذلك هو أن محاولة تحويل الظواهر الكيفية، مثل جودة التعليم أو الإبداع البحثي أو التأثير المجتمعي أو السمعة الأكاديمية، إلى مؤشرات كمية قابلة للقياس تمثل في أغلب الأحوال تحديًا كبيرًا نظرا لطبيعتة هذه الظواهر الكيفية، وأي محاولة في هذا الاتجاه غالبا ما تشوبها عيوب منهجية وانتقادات موضوعية.
فكل مؤشر مهما كانت منهجيته ودقته لا يستطيع أن يعكس إلا جانبًا واحدًا أو جانبين على الأكثر من جوانب جودة المؤسسة الجامعية، في حين قد يغفل عن أبعاد أخرى كيفية لا تقل أهمية، إما لصعوبة قياسها أو لصعوبة تقدير وزنها النسبي في عملية التقييم الشاملة.
وكنت قد أكدت في أكثر من مقال سابق أن المؤشرات والتصنيفات الدولية ليست سوى أدوات تحليلية لأداء الجامعات، ويجب أن تُستخدم فقط لتحديد مواطن القوة والضعف في هذا الخصوص، وهى ليست غاية في حد ذاتها بل وسيلة للتجويد.
وأرى أن الخلل الحقيقي لا يكمن في التصنيفات ذاتها، بل في طريقة تعاملنا معها؛ فالبعض يتعامل مع التصنيف على أنه غايه في حد ذاته، وبالتالي يفرط في الاهتمام بالجوانب التي يقيسها التصنيف ويغفل عن جوانب الجودة الكيفية التي قد تكون أكثر أهمية.
كما أن البعض يتعامل مع ترتيب هذه التصنيفات بوصفها وسيلة للتفاخر والترويج الإعلامي، في حين أن الهدف الحقيقي منها يجب أن يكون الاستفادة من نقاط القوة والضعف المذكورة في تقارير هذه التصنيفات لتحسين الأداء الأكاديمي والإداري والبحثي.
وبناءً على ما تقدم، أرى أن انسحاب السوربون وعدد من الجامعات المرموقة من تصنيف التايمز لا يعني رفضها لمبدأ التقييم أو وجود تصنيفات للجامعات، ولكنه مجرد رسالة نقدية واضحة، نتيجة عدم رضاها عن منهجية التصنيف التي تؤدي إلى ترتيب متأخر لها، وتمثل الرسالة دعوة إلى إعادة النظر في منهجيات القياس الحالية، وإلى تطوير مؤشرات أكثر عدلًا وواقعية وتعكس بصورة أشمل جودة العملية التعليمية ومخرجات البحث العلمي، بعيدًا عن هيمنة الأبعاد الرقمية والمؤشرات الكمية التي لا تعبّر دومًا عن جوهر التميز الجامعي، ولكنها تعكس بعض جوانب هذا التميز وتهمل الجوانب الأخرى.
ولكن هل تستطيع مؤسسة ما في المستقبل أن تطور مثل هذا المؤشر؟ دعونا ننتظر ونرى.